يتناول هذا العمل التجربة النهضوية الألمانية بالبحث والتدبر من باب أهم العوائق والمشكلات التي واجهتها وكيف تجاوزتها حتى تبلور هذا الأنموذج التنموي الناجح، ولعل التجربة الألمانية قد ألهمت عددًا من الكتّاب والباحثين فتناولوها بالدراسة والتمحيص؛ لأنها مثال لدولةٍ انتقلت من وضع الهزيمة والتقسيم والتحطيم الذي تسبّبت فيه الحروب إلى دولة قوية ذات اقتصاد متطور، وتضطلع بدور قيادي على مستوى أوروبا. لكن أغلبهم ركز على الشق الاقتصادي فقط في حين أن هذا الكتاب يعالج نجاحاتٍ ألمانية على المستوى السياسي والعلمي والثقافي بشيء من التفصيل.
عالج الكاتب في الجزء المتعلق بالنظام السياسي الألماني أهم الإنجازات السياسية التي تحققت في مرحلة البناء فقد أعزى الكاتب اختيار النظام الفيدرالي إلى محاولة الحفاظ على وحدة الدولة وفي نفس الوقت إلى السماح بممارسة الاختلاف ووضع هامشٍ للتنوع في إطار المصلحة الوطنية وهو ما تم بالفعل، وقد أشار إلى أن تأهيل النظام الفيدرالي في ألمانيا تم انطلاقًا من السياق التاريخي الألماني الذي تطور فيه الوعي السياسي، ومن ثمة فهو يختلف عن نظيره السويسري الذي تم بناؤه انطلاقًا من فِكْر نظري بحت، كما عالج كيف واجهت ألمانيا تحدي إرساء الديمقراطية من خلال أدوات متعددة ومبتكرة تنوعت مابين: زرع قيم المواطنة والمسؤولية، والتسامح وإعادة بناء المؤسسات، وفي الأخير إعادة تشكيل ثقافة سياسية تعود إلى النسق القِيمي الذي ساد في المرحلة قبل النازية من خلال دعم ثقافة حوارية تتقبل التعدد والاختلاف. كما أفرد جزءًا تناول فيه دور الحلفاء في بلورة نظام سياسي ديمقراطي في ألمانيا.
بيّن الكاتب خصوصيةً تتعلق بالصراع السياسي في ألمانيا تتعلق بمحورية الاقتصاد في البرامج الحزبية الألمانية، وفي الجزء التالي عالج السياسة الخارجية الألمانية، موضِّحًا أن ألمانيا ركّزت على هدفين رئيسين هما: دعم الاقتصاد الالماني وترقيته، وتحقيق الوحدة الأوروبية، فألمانيا من الدول المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي، وقد عملت جاهدةً على بناء الثقة مع الدول الأوروبية وترميم علاقتها بهم.
كما استعرض الكاتب عوامل نجاح النظام التعليمي الالماني حيث قد تم تصميمه وفق رؤية شمولية، ووُضعت له أهداف واضحة، أهمها: بناء رأسمال بشريّ لتحقيق قدرة تنافسية، وتشجيع الابتكار والإبداع، وأيضًا ربطه بمحيطه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وقد تم توفير بنية تحتية ومؤسسات متطورة لتحقيق ذلك، نتج عن ما سبق أن ساهم النظام التعليمي في خلق كوادر ونخبة علمية عالية؛ إذ تتميز ألمانيا بأنها من أكثر الدول المنتجة للعقول المبدعة في المجالين العلمي والفلسفي، كما أنها الأولى أوروبيًّا من ناحية براءة الاختراعات.
وقد ركّز الكاتب على المعجزة الألمانية الاقتصادية موضِّحًا أولًا العوامل التي اعترضت إقامة صناعة قوية، والعقبات التي جعلت ألمانيا تتأخر صناعيًّا مقارنة بدول أوروبية أخرى. في المقابل تناول بعض الإمكانيات الاقتصادية التي منحتها ميزةً تسمح بتفوقها في بعض المجالات. وأوضح كيف تم بناء إجراءات وسياسات متكاملة حوّلت ألمانيا من دولة تعتمد على القطاع الفِلاحي بشكل أساسي إلى دولة صناعية متطورة. من بين هذه السياسات سياسة الانغلاق التجاري المؤقت حتى تكوين صناعة ثقيلة ذات مناعة اقتصادية، وقد أوضح الجدل الذي دار بين صانعيْ السياسة حول السياسات المناسبة. وفي النهاية تناول عددًا من المحاولات النظرية لتفسير القفزة الألمانية على المستوى الاقتصادي تراوحت بين نظريات أنصار دور العوامل الخارجية التي أرجعت هذا التحول الهائل إلى دور مشروع مارشال، وبين نظريات أنصار العوامل الداخلية التي عزت النهضة الاقتصادية للأنموذج الاقتصادي الألماني المبتكَر. والملاحَظ على هذه النظريات أنها وفرت رؤية متكاملة تفسر النهضة الألمانية من خلال التركيز على جزئياتها المختلفة.
وقد خصّص الكاتب جزءًا لمعالجة الأسس العقدية والقِيمية للنهضة الألمانية ، حيث بيّن أن ألمانيا تتميز بخاصيتين هما: التعدد القِيمي من ناحية، وتعدد الدوائر الثقافية التي تمثّل مصدر هذه القيم من ناحية ثانية، وقد بيّن الكاتب كيف أن هاتين الخاصيتين ساهمتا في تشكيل أنموذج الإنسان الألماني المتمّدن شديد الاتصال بتاريخه الحضاري.
في الختام حاول الكاتب إسقاط الإشكاليات الألمانية على الإشكاليات التي تعاني منها الدول العربية معالجًا أهم إشكالية وهي إشكالية علاقة الدين والدولة، وقد أوضح الكاتب أن العلمانية بشكلها الكلاسيكي التي تنادي بالفصل التام بين الدين والدولة ليست سوى شكل نظري غير موجود في أوروبا خاصة في ألمانيا، فالدين ما يزال حاضرًا في المجال العام خاصة السياسي، لكن الذي تغير هو علاقة الكنيسة بالسلطة السياسية، كما أن الدين بشكله الثقافي ما يزال مصدرًا للقيم المعيارية في ألمانيا، ومن ثم فقد اُعتبِر أن الطرح العلماني النظري غير ممكن عمليًّا، ومن ثم فإن حضور الدين في الدول العربية لا يشكل إشكالية نهضوية حقيقية، رغم كثافة الطرح النظري من قبل المثقفين في أدبيات التنمية. وقد أنهى الكاتب عمله باستخلاص عدد من الدروس التي يمكن أن تستفيد منها الدول النامية.
الكتاب يمثل إضافة إلى المكتبة العربية، كما أن الكاتب نجح في علاج الموضوع وفقًا للأهداف التي شرحها في المقدمة وقدّم إضاءة إضافية لبعض الأمور التي كانت غامضة ولم تعتنِ بها الدراسات الأخرى المشابهة خاصة في الجزء المتعلق بالأصول الفلسفية للنهضة الألمانية، لكن الجزء الذي تناول الإشكالات المركزية للنهضة في العالم العربي لم يكن وافيًا نظرًا لأن العالم العربي لا يعاني فقط من إشكالية علاقة الدين بالدولة بل من إشكاليات ثقافية واجتماعية وقيمية وسياسية مختلفة، ولكن نظرًا لاتساع الموضوع المتعلق بهذه الإشكاليات ونظرًا لطبيعة الدراسة الإجرائية التي قام بها الكاتب فإنه يعذر في هذا المجال على أمل أن يفتح هذا العمل نقاشاتٍ ضرورية قد تؤدي إلى إنجاز دراسات تستوفي الباقي من هذا الموضوع.
المصدر: politics-dz